تعريفه ومراتبه:
قال السيد الجرجاني رحمه الله تعالى: (هو اجتناب الشبهات خوفاً من الوقوع في المحرمات) .
وقال العلامة محمد بن علان الصدِّيقي رحمه الله تعالى: (هو عند العلماء ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس) .
وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (الورع كف النفس عن ارتكاب ما تكره عاقبته) .
ولتوضيح معنى الورع نبين مراتبه التي يسعى طالب الكمال أن يتحقق بها.
فورع العوام: هو ترك الشبهات حتى لا يتردى في حمأة المخالفات، اتباعاً لإرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “إن
الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من
الناس، فمن اتقى الشبهاتِ فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع
في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك
حمى، ألا وإن حمى الله محارمه...” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، ومسلم في كتاب المساقاة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما].
وورع الخواص: ترك ما يكدر القلب ويجعله في قلق
وظلمة. فأهل القلوب يتورعون عما يهجس في قلوبهم من الخواطر، وما يَحيك في
صدورهم من الوساوس؛ وقلوبهم الصافية أعظم منبه لهم حين يترددون في أمر أو
يشكُّون في حكم؛ كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن صحيح]، وبقوله: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس” [رواه مسلم في كتاب البر والصلة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه. حاك: أي جال وتردد].
وفي هذا يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه) .
وورع خاصة الخاصة: رفض التعلق بغير الله تعالى،
وسدُّ باب الطمع في غير الله تعالى، وعكوف الهمم على الله تعالى، وعدمُ
الركون إلى شيء سواه، وهذا هو ورع العارفين الذين يرون أن كل ما يشغلك عن
الله تعالى هو شؤم عليك.
قال الشبلي رحمه الله تعالى: (الورع أن تتورع عن كل ما سوى الله) .
فضله:
مما سبق يتضح أن الورع صفة جامعة لكل خصال
الكمال، فلقد دخل الحسن البصري رحمه الله مكة فرأى غلاماً من أولاد علي بن
أبي طالب رضي الله عنه قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس، فوقف عليه الحسن
وقال: (ما ملاك الدين؟ فقال: الورع، قال: فما
آفة الدين؟ قال: الطمع. فتعجب الحسن منه، وقال: مثقال ذرة من الورع خير من
ألف مثقال من الصوم والصلاة) .
قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (ليس
يدل على فهم العبد كثرةُ علمه، ولا مداومتُه على ورده، وإنما يدل على نوره
وفهمه غناه بربه وانحياشه إليه بقلبه، والتحرر من رق الطمع، والتحلي بحلية
الورع) .
وليس أدلَّ على منزلة الورع، وأنه أرقى أنواع العبادة من وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال: “يا أبا هريرة كن ورعاً تكن أعبدَ الناس” [رواه ابن ماجة عن أبي هريرة في كتاب الزهد - باب الورع والتقوى - بإسناد حسن].
ولهذا كان الورع سبيلاً لنيل المنح الإلهية الكبرى، كما قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: (من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء) .
ولأهمية الورع، ورفعة منزلته، وعلو شأنه، وعظيم أثره، أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، نورد هنا بعضها:
1 - عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة وقال: حديث حسن غريب].
2 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع” [رواه الطبراني في “الأوسط”، والبزار بإسناد حسن].
3 - وروي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث مَنْ كنَّ فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان: خُلُقٌ يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحِلم يردُّ به جهل الجاهل” [رواه البزار كما في “الترغيب والترهيب”].
4 - عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: “لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة].
5 - عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة، فجعلها
في فيه.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كخْ كخْ، ارمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة، أو أنَّا لا تحل لنا الصدقة” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة].
روي أن الصدِّيق رضي الله عنه أكل طعاماً أتاه
به غلامه، ثم أخبره الغلام أن فيه شبهة، فما وسع الصدِّيق رضي الله عنه إلا
أن أدخل يده في فمه، فقاء كل شيء في بطنه [أخرجه البخاري في صحيحه باب أيام الجاهلية].
وكان يقول: (كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام) .
وحُملَ إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مسك من الغنائم، فقبض على مشامِّه وقال: (إنما يُنتفعُ من هذا بريحه، وأنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اشتريت إبلاً، وسقتها إلى الحمى، فلما سمنت؛ قدمت بها، فدخل عمر رضي الله عنه السوق فرأى إبلاً سِماناً.
فقال: لمن هذه؟
فقيل: لعبد الله بن عمر.
فجعل يقول: يا عبد الله! بخ بخ... ابنَ أمير المؤمنين وقال: ما هذه الإبل؟!
قلت: إبل أنضاء “هزيلة” اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون.
فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل
ابن أمير المؤمنين! يا عبد الله بن عمر خذ رأس مالك، واجعل الربح في بيت
مال المسلمين) .
قال خزيمة بن ثابت: (كان
عمر إذا استعمل عاملاً كتب له عهداً وأشهد عليه رهطاً، واشترط أن لا يركب
برذوناً ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات،
فإن فعل شيئاً من ذلك حلت عليه العقوبة) .
وقصته مع زوجته معروفة، يوم اقتصدت لتشتري
الحلوى، وطالبته بالشراء فقال: من أين لك ثمن الحلوى؟ قالت: اقتصدت قال:
رديه لبيت المال فلو احتجت إليه ما اقتصدت. وهو الذي كان يجوع لتشبع رعيته.
وكان لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه غلام يأتيه بقمقم من ماء مسخَّن يتوضأ منه، فقال للغلام يوماً: (أتذهب بهذا القمقم إلى مطبخ المسلمين فتجعله عنده حتى يسخن، ثم تأتي به؟
قال: نعم، أصلحك الله.
قال: أفسدته علينا. قال: فأمر مزاحماً أن يغلي
ذلك القمقم، ثم ينظر ما يدخل فيه من الحطب، ثم يحسب تلك الأيام التي كان
يغليه فيها، فيجعله حطباً في المطبخ) .
وقال العلامة المناوي رحمه الله تعالى: (وقد
رجع ابن المبارك رحمه الله من خراسان إلى الشام في رد قلم استعاره منها...
وبعد أن أورد المناوي عدة قصص في ورع الصوفية قال: فانظر إلى ورع هؤلاء،
وتشبَّهْ بهم إن أردت السعادة).
وحُكي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى أنه حُمل
إلى دعوة، فوُضع بين يديه طعام، فجهد أن يمد يده إليه، فلم تمتد، ثم جهد
فلم تمتد ثلاث مرات، فقال رجل ممن كان يعرفه: (إن يده لا تمتد إلى طعام حرام، أو فيه شبهة، ما كان أغنى صاحب هذه الدعوة أن يدعو هذا الرجل إلى بيته).
قال شاه الكرماني: (علامة التقوى الورع، وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات، وعلامة الخوف الحزن، وعلامة الرجاء حسن الطاعة).
فاجتهد أيها القارىء أن تلحق بأهل الهمم العالية، وجالسهم لتجانسهم ومن جالس جانس.